
الفن عموماً هو شكل ورسم ، ولكنه حين يعبّر عن حضارة بعينها ، فان اي بصمة تميزه عن غيره ، تصبح بمثابة هوية ثابته له وبصرف النظر عن المكان والزمان الذي نُفذ به ، هذا ينطبق تماماً على الفنون الاسلامية التي امتدت من الاندلس غرباً الى الهند والسند وحواف الصين شرقاً ، وتحولت معها معالم الطبيعة الى نفائس فنية ، بايقاع هندسي ، حاول فك رموز عناصر الطبيعة ، واعادة تركيبها على شكل مرئي ، كما بدا ذلك في كثير من فنون التراث الاسلامي .
لايمكن الحديث عن الفن الاسلامي ، دون المرور أولاً بالمرحلة الأموية ، التي دشنت ما يسمى بعصر الحضارة الاسلامية وفنونها المختلفة ، تلك الفنون التي تأثرت اصلاً بأقرب الحضارات اليها ، خاصة الرومانية والبيزنطية والفارسية ، القريبة من عاصمة الدولة الجديدة في دمشق .
وأول ما استوحاه فنانو الدولة الاسلامية الحديثة واستنبطوا منه فنونهم الجديدة ، هو من ذاك الذي وجدوه في كنائس ومعابد وقصور هذه الامبراطوريات التاريخية الثلاث ، وكان عبد الملك بن مروان ، أول من ظهرت في عهده التغييرات التي طرأت على عمارة المساجد وزخرفتها ، وبما ينسجم مع ما تم اكتسابه من معارف هندسية وزخارف نباتية في محيط دمشق العاصمة ، خاصة التراث الروماني والاغريقي وغيره . ويمكن ملاحظة تأثر هذه الفنون من خلال ما ورد في قبة الصخرة والمسجد الأقصى ، وحتى في مسجد بني امية الجديد في دمشق ، وانتقل بعد ذلك الى اطراف الدولة الاموية في كل من القيروان والبصرة والمدينة والكوفة في العراق . وحلّيت جدران تلك المساجد بعنصر زخرفي جديد لم يكن معروفاً من قبل ، وهو الزخارف الجصية المرصعة بالزجاج الملوّن ، والمستوحاة من العصر البيزنطي تحديداً .
تغيرت معالم الفن الاسلامي في ذاك الزمان بتغير الخلافة ، وانتقالها من دمشق الى بغداد في العصر العباسي ، وفُضِّلت الزخارف الجصية على الحجرية ، وزاد ظهور العنصر الفارسي عموماً في الفنون الاسلامية الجديدة ، بسبب مكانة العنصر الفارسي في الدولة الجديدة ، ولكن تلك الفنون لم تنقطع كلياً عن النمط الأموي ، خاصة في مسألة الاعتماد على الوحدات النباتية والزخرفة ، وبلغت فنون الكتاب في هذا العصر أوجها ، واشتهر فيها الكثير من الخطاطين والمذهبين ، خاصة في الفترة بين القرنين الثالث والسادس للهجرة ، وبرز فيها اعلامٌ من الخطاطين ، مثل ابن البواب ، وابن مقله وغيرهم ، واستعان العباسيون بفنانين متأثرين بالفن البيزنطي والروماني ، من بقايا نصارى ذلك العصر خاصة في بلاد الشام تحديداً .
وقد انعكست فكرة التوحيد على اعمال الفنان المسلم الفنية ، حيث اتسمت بالوحدة والتجريد، وجاء التعبير المطلق اللانهائي كتعبير تأملي ، وكانت النقطة لديه ، اول عنصر من عناصر العمل الفني ، التي تمتد لتكون خطاً ، والتف الخط بيديه ليكون دائرة ، وتضلّع ليكون مربعاً ، وهي الأشكال الأولية والابجدية الاولى التي تكوّن منها الفن الاسلامي .
فالنقطة هنا هي البداية ، وبالتالي فأن اية اشكال تتبعها ، او تصدر عنها ، هي بمثابة تعبير ذهني تأملي جمالي ، يعبر عن حقيقة هذا الكون وعن سر الوجود ، ولذلك كان النظام الهندسي الرياضي ، واحد من أهم وسائل التعبير الفني لديهم ، هذه الصيغة الرياضية الحافلة بالتنوعات الهندسية اللانهائية ، وتناغم أشكالها من مثلثات ومنحنيات ودوائر وغيرها ، جعلت من هذه الفنون الزخرفية ، متعة ذهنية للعقل الانساني ، بل متعة للعين المولدة للمشاعر ، كونها تمثل معادلة جمالية ، تعبر عن المطلق والمحدود في آن معاً ، مستلهمين في كل ذلك مبدأ الهندسة الفاضلة ، باعتبارها الركن الاساسي لتعبير الفنان عن مبدأ التوحيد كحقيقة فكرية .
خلاصة الأمر ، ان ما يميز الفن الاسلامي ، هو عالميته وهذا مستمد أصلا من تنوع بنية الامم الاسلامية ، ونوعية اجناسها المختلفة ، مما جعل تلك الفنون متفردة ، في شكلها ومضمونها ، وصاغ لها الفنانون ملامح محددة ، زاوجوا فيها بين نتاج الثقافات لتخرج لنا في نهاية المطاف شخصية فنية جديدة تجريدية بثوب توحيدي .
لم تختلف هذه الفلسفة الفنية في العصور اللاحقة ، سواء كانت المملوكية او العثمانية ، حيث بقيت فكرة التوحيد العلامة البارزة في اسس هذا الفن ، ولكن العنصر الجديد فيها ، لم يكن سوى ادخال بعض العناصر من ثقافات واجناس اخرى ضمن اطار الدولة الاسلامية ، وبقي التجريد القاسم المشترك الاعظم الذي وحّد اعمال الفنانين في تلك المرحلة التاريخية .